Warning: Undefined array key "rcommentid" in /customers/6/5/f/pcm.me/httpd.www/wp-content/plugins/wp-recaptcha/recaptcha.php on line 348 Warning: Undefined array key "rchash" in /customers/6/5/f/pcm.me/httpd.www/wp-content/plugins/wp-recaptcha/recaptcha.php on line 349
بقلم : أميمه كمال – جريدة الشروق
أشفق كثيرا على الذين حرموا أنفسهم من متعة الحياة ولو ليوم واحد فى ميدان التحرير حيث مقر الثورة الشعبية. وأقسم بالله العظيم بأنه سيأتى يوم سيندم كل من اختار أن يكون على الجانب الآخر، وسيتمنى لو كان ضمن هؤلاء البشر الذين من عظمتهم قد تحتار من أين أتوا؟. وما الذى جعلهم هكذا؟ ومن الذى علمهم كل هذه القيم؟
الحياة فى هذه البقعة التى يقسم كل من فى داخلها أنها مصر بعد تحريرها تبدو رائعة بشكل لا يصدق. والبشر فيها لا يكذبون، ولا يسرقون، وليس فيها محتكرون،ولا أحد يستغل نفوذه أو منزلته الاجتماعية. الكل يفضل الآخر عن نفسه. لا يأكل أحد هنا قبل أن يعزم بلقمته على الآخر. ولا ينام إلا إذا اطمأن على أن جاره فى الأرض قد وجد غطاء. وعندما تقدم لأحد قطعتين من البسكويت يرفضها على الفور ويقول لك واحدة فقط لعل غيرى يكون هو الأحق. ومهما حاولت أن تلح عليه لن يقبل.
الكل يأخذ بقدر حاجته فقط حتى لو توفر له المزيد. لا أحد يعاير أحدا على أنه يقدم له دعما مثلما كانت تفعل الحكومة بنا. الدعم هنا فى التحرير يصل إلى مستحقيه بدون أى اجتهادات من وزارة التضامن الاجتماعى ولا من خبراء البنك الدولى. الجميع يأكل من نفس الطبق، ومن نفس الطعام لا غنى ولا فقير. .
والأطباء هنا يعالجون الجميع بالمجان. ويجمعون الأموال من بعضهم البعض، ومن المتبرعين، الذين لا يعلنون عن أنفسهم مثلما كان يفعل رجال الأعمال فى إعلانات مدفوعة الأجر، من أجل شراء الأدوية والأربطة والشاش. لا أحد هنا يقف فى طابور الانتظار حتى يتعالج بالمجانى. ولا تقدم الرشاوى للحصول على العلاج على نفقة الدولة. كل من يحتاج إلى العلاج تقدم له الرعاية كاملة بمنتهى الاهتمام. دون أن يكون هناك رعاية أفضل للأغنياء وفى غياب وزارة للصحة التى تقدم الأولوية لنواب البرلمان ولعلاج الوزراء فى الخارج على حساب المستحقين.
وكل من لديه قدرة مالية يدفع بقدر ما يستطيع لتوفير كل ما يحتاجه الآخرون من مستلزمات الحياة فى مقر الثورة. يعنى بشكل بسيط الغنى هنا يدفع الضرائب للفقير لكى يوفر له احتياجاته دون تهرب، وعن طيب خاطر.
وهنا فى مقر الثورة لا مكان للواسطة أو المحسوبية فهناك مقر لاختبار أصحاب المواهب فى الشعر والغناء والتمثيل. والكل له نفس الوقت المخصص للآخر فهو يلقى بفنه أمام الناس على الهواء. والناس تختار الأفضل دون أن يكون ابن وزير، أو نائب مجلس شعب، أو عضوا فى لجنة السياسات فى الحزب الوطنى.
والناس فى التحرير تحرس نفسها بنفسها دون جهاز أمن اعتاد إهانة البشر. يحمى الشباب الجميع بأجسادهم. هؤلاء يستبسلون، ويقفون بالساعات على أقدامهم يحرسون حدود المنطقة المحررة من الوطن فى مواجهة البلطجية بدون أجهزة الشرطة القمعية التى كانت تستقطع المليارات من أموال الموازنة من أجل توفير أدوات لمواجهة المتظاهرين وقتلهم بدلا من حمايتهم.
والناس فى التحرير يرفضون التزوير. فكل القرارات يتم اتخاذها على العلن، وبمنتهى الشفافية. فيقف أحد القيادات الشبابية ويسأل الناس فى الميكروفون نحن نرفض التفاوض مع الحكومة قبل أن يرحل الرئيس هل توافقون؟. ولا ينطق موافقة مثلما كان يحدث فى مجلس الشعب إلا بعد أن يتأكد من أن الجميع قد رفع يده بالموافقة. ويصفق الجميع بعد أن يتأكد أن القرار قد اتخذ بأسلوب ديمقراطى.
وفى التحرير لا توجد تفرقة بين الفقراء والأغنياء. فالكل يحمل المقشات، وينظف الميدان. وفى نهاية اليوم تذوب الفوارق تماما بين الطبقات. ولا تكاد تميز بين شباب الجامعة الأمريكية، وبين خريجى دبلوم التجارة، بعد أن تكون مهمة التنظيف قد أخفت معالم حاملى المقشات، وتكون حرارة الشمس كفيلة بأن تقرب كثيرا من ملامح مرتادى نادى الجزيرة ومركز شباب عابدين. وأصبح الأمر لا يحتاج إلى وزارة للشباب بعد أن أصبح الشباب يعرف ماذا يفعل بدون وزارة تحمل من الاسم أكثر كثيرا من المهمة ذاتها.
والناس فى ميدان التحرير تذوب عشقا فى الوطن بقدر قد لا يستطيع قلبك احتماله. فكلما يخفت صوت الميدان قليلا تجد شابا يخرج هاتفا وسط المتظاهرين مثيرا للحماس مرة أخرى «ارفع صوتك يا بطل أنت بتحرر وطن» ويبدأ الجميع فى ترديد الهتاف. وما هى إلا لحظات وتسمع أنغاما تأتى لك من وسط الميدان تشعر معها بأن كل جسدك يرتعش حبا وعشقا لهذا البلد، ولهؤلاء البشر. ويرتفع صوت الغناء «يحكى أن، أن إيه؟ سرقوا بلادنا ولاد الإيه» وتلمح دموعا فى عيون المتظاهرين من حولك وهم يرددون خلف فرقة إسكندريلا فى حسرة (ولاد الإيه)
.
وقبل أن تنتهى الأغنية يصل إلى مسامعك على الطرف الآخر من الميدان صوت عبدالحليم حافظ «أحلف بالمدنة وبالمدفع. أحلف بالقمح وبالمصنع بولادى بأيامى الجاية ما تغيب الشمس العربية طول ما أنا عايش فوق الدنيا». وعندها تشعر بأن دقات قلبك تعلو وتعلو لدرجة تخشى معها أن يسمعك من يقف بجانبك.
وأينما جالت عيناك فى الميدان تجد أناسا يبحثون عن أى شىء يقدمونه للآخرين لعلهم يساهمون بقدر ولو يسير فى الثورة. فتجد فنانا يعطى درسا للمتظاهرين فى دق الطبول. وما أن يبدأ فى تعليمهم حتى يستوعبوا الدرس. وما هى إلا دقائق وتجد فريقا محترفا رائعا قد تم تدريبه. ويأتى شباب من بعيد ليصفقوا، ويقفزوا فى الهواء على نغمات الطبلة (ارحل يعنى امشى ياللى ماتفهمشى)
عالم ميدان التحرير ليس فيه بشر من عينة أحمد عز، وأحمد المغربى، وصفوت الشريف، وجمال مبارك ولا وزراء المليارات ولا نواب التأشيرات. ولكن هو قطعة محررة من أرض مصر يعيش عليها أناس يصدق عليهم قول متظاهر أتى القاهرة لأول مرة فى حياته فى يوم 25 يناير «أحنا مابنبعش مصر. هما باعوا كل حاجة باعوا الجلابية والوطن والبندقية». وصدقونى سوف يأتى يوم يقول من لم ير كل هذا يا ليتنى كنت هناك