بعد تأجيل مرّات عدة، بضغط من المنتفعين وأصحاب الامتيازات والمصالح الخاصة، ولا سيما تجّار الأدوية المحتكرون وبعض الأطباء المتورطون معهم في ترويج أدوية معينة. حُدّد 30 حزيران الجاري (غداً الثلاثاء)، موعداً نهائياً، لا رجوع عنه بحسب مصادر وزير الصحة، لإطلاق الوصفة الطبية الموحدة الموعودة وبدء العمل بها. إلا أن كل ذلك، لا يعني أن بعض الأطباء وتجار الدواء قد يئسوا من محاولة ضرب الهدف من إقرار هذه الوصفة، فما زالت المساعي متواصلة لعرقلتها.
تقول مصادر وزير الصحة إن الموعد مؤكّد هذه المرة، فقد وُجِّهَت الدعوة إلى حفل الإطلاق في السرايا الحكومية، برعاية رئيس الحكومة تمام سلام. إذ إن وزير الصحة وائل بو فاعور، هدد مجدداً بقرار فصل أتعاب الأطباء عن المستشفيات إن لم ترضخ نقابة الأطباء في بيروت.
سبق للوزير بو فاعور أن أعلن منذ أشهر أن العمل بالوصفة سيبدأ من 1 آذار من هذا العام، جابهته حينها نقابة الأطباء بسلسلة من العقبات الشكلية «المفتعلة»، منها ضرورة قيام الضمان بتعديل المادة 42 من النظام الطبي للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حتى يسمح للصيدلي بأن يستبدل الدواء، وأُحضر نقيب الأطباء في الشمال ليشرح الأسباب التي دفعته إلى وقف العمل بالوصفة الطبية الموحدة بعد نحو على بدء تطبيقها في الشمال، إذ قيل يومها إن جهاز الضمان الاجتماعي تواطأ مع الأطباء في عرقلة معاملات صرف فواتير الأدوية وفقاً للوصفة الموحدة (قبل تعديلها أخيراً)، علماً بأن تذرع الضمان بالمادة 42 من نظامه الطبي، التي تنص على أن «لا يدفع الصندوق إلا ثمن الدواء والمواد الصيدلانية التي يصفها طبيب متعاقد مع الصندوق»، واهٍ، بعد أن أصبحت هذه المادة بحكم الملغاة بموجب القانون الصادر في عام 2010، الذي يقول: «خلافاً لأي نص آخر، يحق للصيدلي أن يصرف إلى حامل الوصفة الطبية، دواء تحت اسم جنيسي – Generique or Brand Generic غير المذكور فيها، وذلك ضمن شروط (…)». حينها، لم تستطع اللجنة الفنية في الضمان أن تتلطى لفترة طويلة وراء هذه الحجة، فسقطت إحدى أهم أدوات الضغط التي يستخدمها الأطباء وحلفاؤهم، بعدما أعلن مديرالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي محمد كركي، أن مجلس إدارة الضمان سيلغي هذه المادة، بضغط من بو فاعور ومن وزير العمل سجعان قزي (وزير الوصاية على الضمان).
وفي الوقت الذي كانت تنظم فيه سلسلة من الاجتماعات بين وزارتي الصحة والعمل ونقابتي الأطباء في بيروت والشمال والضمان الاجتماعي، لإلغاء المادة 42 من النظام الطبي للضمان، وللتوصل إلى صيغة نهائية للوصفة. كانت نقابة الأطباء تشنّ حملة إعلامية مضادة، إذ أصدر نقيب الأطباء وزملاء له مجموعة من المواقف المشككة بإمكانية سير العمل بالوصفة، وجودة دواء الجينيريك، وظهر ذلك بوقاحة في خلال اللقاء الذي نظمه نقيب الأطباء أنطوان البستاني في نقابة الأطباء بحضور وزير العمل سجعان قزي وغياب وزير الصحة وائل بو فاعور، وبيّن الأطباء حينها الأسباب الحقيقية وراء رفضهم للوصفة الطبية الموحدة. فهذه الوصفة، إذا ما طبقت بالشكل المرجو منه، توقف احتكارات شركات الأدوية وتجبرها على إعادة هيكلة علاقاتها بالصيدليات والأطباء والإداريين العامين. كذلك فإنها تقلّص من مداخيل المتورطين بعقود «تجارية» لتصريف أدوية بعض الشركات المحتكرة التي تصل إلى المرضى بضعف أسعارها في بلدان المنشأ، كذلك فإنها تفضح الأرباح الحقيقية التي يجنيها الأطباء الذين يتهربون من الضرائب، وغيرها من الإصلاحات داخل القطاع الطبي، إضافة إلى الهدف الأساس من العمل بها: خفض الفاتورة الدوائية على المواطن، عبر استبدال الدواء التجاري بأخر جنيسي (جنيريك) له الفعالية نفسها.
استمرت محاولات شركات احتكار الدواء وشريحة من الأطباء لتكريس «الأمر الواقع»، ولم تتوقف الضغوط لتعديل الوصفة بما يحفظ مصالحهم على حساب مصالح المرضى، فبعدما جرى تعديل المادة 42 من الضمان، وإعلان بو فاعور إطلاق الوصفة الطبية في 1 حزيران، سقطت مبررات الأطباء، فما كان منهم إلا أن بدأوا بتأخير طباعة النموذج وعرقلة العملية الإدارية قدر المستطاع.
وعلمت «الأخبار» من مصدر داخل نقابة الأطباء أن النقابة أخّرت الطبع لنحو 3 أشهر، لأنها لم تحول من صندوقها الأموال المخصصة لذلك، وكانت تراهن على تغيّر الحكومة وتعيين وزير صحة جديد خلفاً لبو فاعور، يحقق للنقابة ومن يقف وراءها مرادها، كما فعل الوزراء السابقون، إلا أن هذا الرهان سقط. فبعد أن أجّل بو فاعور إطلاق الوصفة إلى 15 حزيران، احتدم الخلاف بين نقابة الأطباء ووزير الصحة أكثر فأكثر، إلى أن انقطع التواصل بينهما تقريباً بين، فجرى تهديد النقابة بإجراءات عقابية إن لم تحوّل الأموال إلى المطبعة والمباشرة بطباعة الوصفة الطبية «غصباً عن النقابة»، بحسب ما أشار مصدر طبي لـ»الأخبار». لذلك، رضخت النقابة، وبالفعل حوَّلت الأموال وتمّ إنجاز هذه الخطوة الادارية.
أصبحت الوصفة جاهزة، وعُيِّن موعد جديد لإطلاقها في 30 حزيران، بخلاف ما يتمنّاه الأطباء والمنتفعون، إلا أن محاولات العرقلة لن تتوقف، فقد أشار مصدر من داخل مجلس نقابة الأطباء، إلى نقاش يدور حالياً لمقاطعة الاحتفال الذي سيجرى في السرايا الحكومية يوم الثلاثاء، علماً بأن توزيع الوصفة على الأطباء في لبنان قد يستغرق أسبوعين تقريباً، ما يعني أن التعطيل لا يزال ممكناً.
تخوّف النائب السابق الطبيب إسماعيل سكرية من أن تخلق الوصفة الطبية الموحدة بلبلة وإرباكاً كبيراً عند المواطنين. فالوصفة تركت للطبيب قرار السماح للمريض باستبدال الدواء أو منعه، دون وضع أي معيار لذلك، وهذه نقطة غير واضحة «وتفقد الوصفة بعضاً من قيمتها وهدفها». فالطبيب في ظل المنظومة القائمة حالياً قد لا يسمح دائماً للمريض باستبدال الدواء، والصيدلي لا مصلحة «مادية» له باستبدال الدواء، لكون النسبة التي يجنيها من الدواء ترتفع مع ارتفاع سعره، كذلك إن «دفة الفساد» بدأت تنتقل إلى الصيدلي منذ أن بدأ الحديث جدياً عن الوصفة الطبية الموحدة.
لسكرية موقف من هذه الخطوات الإصلاحية، الوصفة الطبية أو غيرها، «المبنية على أرضية وعواميد وأساسات ينخرها الفساد والصدأ، ويتولى تنفيذها إداريون وغير إداريين وأجهزة رقابة منخورة بالفساد»، فالخشية، وفق سكرية، أن تتحول إلى «كلمة حق يراد بها باطل».
سكرية من المنادين بإقرار الوصفة الطبية الموحدة، التي تهدف إلى «تشجيع وتوسيع مساحة التسويق لدواء الجنيريك الأرخص عالمياً، والمتمتع بمواصفات الدواء المخترع الأصلي نفسها»، إلا أنه في الوقت عينه يربطها بضرورة ضمان جودة الأدوية في لبنان، التجارية والبديلة في آن واحد، من خلال بناء مختبر مركزي يفحص الدواء، مشدداً على ضرورة وجود الرقابة على جميع الأدوية المستوردة من أي بلد كان، والرقابة المشددة أكثر على جميع الأدوية المصنعة محلياً، «حرصاً على الصناعة الوطنية، خاصة أن هناك مصانع أدوية متأهبة لتعويم البلاد بأدوية الجينيريك». أما المختبرات الجامعية، من مختبر الجامعة الأميركية وغيرها، فـ»غير مؤهلة ولا تملك صلاحية فحص الأدوية، وقد مررنا بتجربة مريرة مع إحدى الجامعات»، يقول سكرية، كذلك مررنا بتجارب عديدة زوّر فيها الدواء، «فكيف الحال إذا أغرقت البلاد بالأدوية بعد بدء العمل بالوصفة الطبية الموحدة؟»، يسأل سكرية.
أما عن تبرير القيام بفحص الدواء في الخارج، فيسأل سكرية: «ما الذي يؤكد لنا ماذا حصل بالعينة التي فحصت في فرنسا مثلاً؟ ألا تملك المصانع والمختبرات هناك أي مصلحة في تصدير الأدوية التي اقتربت صلاحيتها من الانتهاء أو الأدوية ذات الجودة المتدنية بهدف الربح المادي أو التهرب من الضرائب؟»، ولكن سكرية يشير في الوقت نفسه إلى أن بعض الأطباء لم يشككوا في الجينيريك بسبب الشك في نوعيته بقدر ما أنهم «فاتحين خطوط مع شركات الأدوية»، ودليل ذلك أنهم لم يتطرقوا إلى مسألة الأدوية التجارية التي زوّرت.
الوصفة الطبية ستساعد في فضح أرباح الأطباء الحقيقية، وقد تردع بعضهم عن التهرب من الضرائب، وهذه إحدى حسنات الوصفة الطبية بحسب سكرية. أما عن تذرّع بعض الأطباء بأنهم يطبّبون بعض المرضى مجاناً وهم أصبحوا بذلك ملزمون بدفع ثمن كل وصفة تصدر (وهي تعرفة رمزية متدنية جداً)، فيرى سكرية أن هذا «حكي بيّاع خضرة مش حكي طبيب»، فحين تطبب أي شخص مجاناً «أنت لا تنتظر أي مقابل ودافعك يفترض بأنه إنساني»، وسأل سكرية عن نسبة المرضى التي يقوم الطبيب بمعالجتهم مجاناً.
رحب رئيس جمعية حماية المستهلك الطبيب زهير برو بإطلاق الوصفة الطبية الموحدة، مشيراً إلى أنها تشكل مرحلة جديدة من التعاطي مع الدواء في لبنان بعد انتظار دام سنوات طويلة، في ظل الاحتكارات الحاصلة في القطاع الطبي وغيره من القطاعات، مثنياً على جهود وزير الصحة وائل بو فاعور المتجهة في الاتجاه الصحيح من أجل تعزيز دور أدوية الجينيرك، لكنه أعرب عن مخاوف يمكنها أن تفشّل هذه السياسة الإصلاحية. يشرح برو الهدف الأساس من الوصفة الطبية: «تعزيز أدوية الجينيريك في سوق الدواء اللبنانية، بهدف خفض العبء على الاقتصاد اللبناني وعلى المستهلك اللبناني، خاصة أن الجنيريك اليوم لا يمثل أكثر من 18-20% من حجم السوق اللبناني، في الوقت الذي تجاوز 92% من حجم سوق الدواء في أوروبا». وسبب تأخر لبنان في اعتماد الوصفة وتأخير إطلاقها في الآونة الأخيرة «ليس الحرص على صحة اللبنانيين، بل تحقيق أقصى الأرباح في ظل منظومة الفساد المسيطرة على القطاع». من هنا ينطلق برو للحديث عن دور لجنتي تسجيل الأدوية وتسعير الأدوية، حيث أثبتت جمعية حماية المستهلك في الفترة الأخيرة كيف تقوم هاتان اللجنتان بتسجيل الأدوية وتسعيرها بأسعار مضاعفة عن الأسعار الدولية. الشرط الأول لنجاح مساعي بو فاعور «ترتبط بآليات وأسس محددة، منها وجود سياسة تسجيل وتسعير مستقلة عن المستوردين والصيادلة وعن منظومة الفساد وضمنها موظفون داخل وزارة الصحة، فالتركيبة الحالية لهذه اللجان (تضم هذه اللجان التجار المستوردين وموظفين من وزارة الصحة) تشير إلى هدفها، ولا سيما في ظل التواطؤ الحاصل أساسأ مع المستوردين». يرى برو أن الإصلاح «إن لم يبدأ برأس المشكلة، عبر تشكيل لجان تسعير وتسجيل مستقلة، تضم ممثلين عن الهيئات الضامنة وهيئات اقتصادية وعمالية وممثلين عن جمعية حماية المستهلك، فسيتم تخريب أي إصلاحات يقوم بها وزير الصحة». أهم ما طرحته الدول التي اعتمدت الجينيريك، إعطاء الحق للصيدلي بتغيير الدواء، من تجاري إلى جينيريك، وشجعت الصيادلة عبر زيادة نسب أرباحهم إن وصفوا الجينيريك (في فرنسا رفعت من 22.5 إلى 33.5%)، وقد حددت هذه الدول قواعد صارمة تنص على أحقية الشركات التجارية في خفض أسعارها إلى مستوى أدوية الجينيريك، على أن لا تسقط دونها، وإلا أصبح الموضوع عملية تلاعب وإغراق لسوق الدواء، وهذا ممنوع عالمياً، وهذه ممارسات تشجع على الاحتكار، فربط الدواء باقتصاد السوق عبر ربط سعري الجينيريك والتجاري أحدهما بالآخر تؤدي إلى إلغاء الجينيريك من السوق. فيتخوف برو من استغلال المادة 54 من قانون الصيدلي التي استغلها عدد من الوزراء السابقين لتسجيل هذه الأدوية بأسعار خيالية، إلا أن بو فاعور أصدر قراراً بتجميد العمل بها. أكثر ما تتخوف منه جمعية حماية المستهلك، تطبيق القرار الوزاري 1/728 الصادر عام 2013 الصادر عن وزير الصحة السابق علي حسن خليل، الذي ينص على ربط انخفاض سعر الجينيريك بسعر الدواء التجاري، فالنسبة التي ينخفض فيها الدواء التجاري، ينخفض فيها الدواء البديل نصفها. «هذا ربط مشبوه» وفق برو، لأنه يترك للدواء التجاري زمام المبادرة، «فما نراه الآن هو ذهاب عدد من الشركات لخفض أسعارها لمعدلات تراوح بين 50 و70% بهدف ضرب أدوية الجينيرك في السوق، وسيبدأ العمل فيها رسمياً في 1 تموز، فكيف يفسّر هبوط دواء بقيمة 70% دفعة واحدة، إلا إذا كانت أرباح شركات الأدوية في الأساس هي، كما كنا نقول دائماً، أضعافاً مضاعفة عن المعلن»، من هنا يطالب برو بإلغاء هذا القرار الوزاري وتحديد التسعير بناءً على الأسس الآتية: توحيد سعر الجينيريك بحسب فئته من قبل لجنة تسعير جديدة بعد إصلاح اللجنة الحالية وتطويرها. كذلك دعا برو باسم جمعية حماية المستهلك وزارة الصحة والضمان الاجتماعي مواكبة تطبيق الوصفة الطبية الموحدة، من حيث تطور وجود الجينيرك في سوق الدواء.
30 – June – 2015